وضعت إسرائيل منذ 7 تشرين الأول ثلاثة أهداف أساسية عاد وأكد عليها بنيامين نتنياهو في الكونغرس:
الهدف الأول إخراج "حماس" من معادلة غزة، وقد تراجعت وتيرة الأعمال العسكرية في القطاع بعد ان أحكم السيطرة العسكرية على مداخلها كلها، وأصبحت بحكم الساقطة عسكريا مع تأجيل التنفيذ بانتظار إيجاد السلطة التي ستتسلّم الأمن في غزة.
الهدف الثاني إبعاد "حزب الله" عن الحدود بإقامة غلاف أمني يمنع اي طوفان جديد في المستقبل، ما يعني ان الحرب مع الحزب لن تنتهي على غرار ما انتهت إليه في آب 2006، وذلك بعد ان اتعظّت من تجربتها السابقة، وخسارة الحزب للحدود تعني خسارته علة وجوده.
الهدف الثالث بعيد المدى ويبدأ مع ترسيم حدود الدور الإيراني، ولن ينتهي إلا بإسقاط نظام آية الله في حال أصر على أدواره المزعزعة للاستقرار.
ومن الواضح ان نتنياهو غير مستعجل على تحقيق أهدافه وكأنه بانتظار ان يدخل حليفه دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، خصوصا بعد أن أنهى الأعمال العسكرية في غزة، وانتقل في غزة ولبنان وسوريا واليمن وإيران إلى الحرب الأمنية التي أظهرت تفوقه الكبير والنوعي على طهران وأذرعها، كما أظهرت ان قوة "حزب الله" ما زالت هي نفسها تقريبا منذ العام 2006، فيما التقنية التي أدخلها الجيش الإسرائيلي دلّت على قدرات لم يكن الحزب يتوقعها، وأدّت إلى تعطيل حركة كوادره العسكرية التي تحولّت إلى أهداف سهلة للاغتيال، وتعطيل انتشاره العسكري بعدما أصبح مكشوفا أمام الجيش الإسرائيلي.
وقد وجهّت تل أبيب ثلاث رسائل أمنية كبرى في الأسابيع الأخيرة:
الرسالة الأولى باغتيال القائد العام لكتائب القسام محمد ضيف الذي تتهمه تل أبيب بانه العقل المدبِّر لهجوم 7 تشرين الأول، واعتبارها خطوة في طريق القضاء على حركة "حماس"، وان الهدف التالي اغتيال رئيس "حماس" في القطاع يحيى السنوار وقيادات الحركة كلها.
الرسالة الثانية باغتيال القيادي في "حزب الله" فؤاد شكر في المربّع الأمني للحزب في حارة حريك، وهذا الاستهداف الأول من نوعه للحزب في الضاحية في كسر لقواعد الاشتباك وتجاوز للخطوط الحمر المرسومة وكأنها غير آبهة لتوسيع الحرب على رغم تأكيدها المكرر بانها ليست في هذا الوارد.
الرسالة الثالثة باغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في طهران في تحدٍّ للحرس الثوري في عقر داره، وقد كشف الخرق الأمني الكبير ان الأزمات التي تعصف بطهران، الاقتصادية والشعبية والدولية، أدّت إلى إضعاف بنية النظام، وتقصدّت تل أبيب برسالتها إفهام الحرس وأذرعه ان طهران عاجزة عن حمايتهم، وان من يعتقد بانها الملجأ لقادة المحور، فهو مخطئ.
وإذا كانت تل أبيب لا تريد توسيع الحرب بسبب رفض واشنطن من جهة، وانتظارها فوز ترامب من جهة ثانية، وتفوقها بالحرب الأمنية التي تكبِّد فيها أخصامها خسائر فادحة من جهة ثالثة، فإن إيران لا تريد الحرب الواسعة تجنبا لخسارة ذراعها "حزب الله" بعد "حماس"، وفي توقيت ملائم لنتنياهو بفعل شلل الإدارة الأميركية وعدم قدرتها على ضبط إيقاعه العسكري، ولكونها تريد العودة إلى ما قبل "طوفان الأقصى" وعدم المجازفة بخسارة أوراقها وانحسار دورها.
ولكن حرص إيران على تجنُّب توسيع الحرب كان يَفترِض عدم إعطاء نتنياهو الحجج لتوسيعها، خصوصا بعد خطابه في الكونغرس والذي أظهر تأييدا أميركيا واسعا له، إلا ان ما هو غير مفهوم يكمن في استهداف الحوثي لتل أبيب في التوقيت الذي يخدم الأخيرة، وجاء ردها الفوري على ميناء الحديدة في اليمن صاعقا وقويا ووجهّت رسالة مفادها انها جاهزة لتوسيع الحرب، وما هو غير مفهوم أيضا استهداف مجدل شمس بمعزل عن الخطأ العسكري الذي أبقى وجهة الصاروخ الأساسية مجهولة، إلا ان رسالة الرد في الضاحية وطهران واضحة بانها جاهزة أيضا للحرب الموسعة.
والواضح حتى الآن ان المواجهة بين إسرائيل وإيران تندرج في سياق اللعب على حافة الهاوية، إذ ما تكاد تحتدم هذه المواجهة على أثر عمليات نوعية حتى تعود لتنحسر، ولكن من يضمن عدم انزلاقها إلى حرب واسعة في حال حصول استهداف من العيار الثقيل جدا الذي يحرج أحد الطرفين ويدفعه إلى التخلي عن سياسة الانضباط التي يعتمدها؟ لا شيء عمليا، فتوسُّع الحرب ممكن في أي لحظة، فضلا عن ان قرار التوسيع من عدمه بيدّ إسرائيل التي ستمنحها اي ضربة موجعة الحجة للتوسيع وجرّ الولايات المتحدة إلى المعركة، لأن الأخيرة لا تستطيع ترك حليفتها في مواجهة بادرت إليها إيران، وهذا ما يجعل الأخيرة تحسب ألف حساب لسقف ردودها.
والرسالة الأبلغ في استهداف إسرائيل للضاحية وطهران انها مستعدة لتوسيع الحرب، وهذا ما قرأته إيران جيدا والتي خيارها الوحيد في هذه المرحلة استمرار حرب الاستنزاف على رغم انها في موقع ردّ الفعل وإحصاء الخسائر في ظل عجزها على الردّ بالمثل باتباع قاعدة اغتيال مقابل اغتيال، وخيارها الوحيد كونها تدرك ان الإدارة الأميركية التي لم تتمكّن من إرساء هدنة في الأشهر السابقة أصبحت اليوم في حالة عجز كامل مع دخولها في الأسابيع الأخيرة قبل الانتخابات الرئاسية، وبالتالي تريد تمرير هذه المرحلة بأقل خسائر ممكنة.
ولكن ما ينطبق على إيران لا ينسحب على إسرائيل التي من الواضح انها تستخدم تفوقها في حرب الاستنزاف لتقويض قوة الممانعة وكسر هيبتها وتصفية أكبر عدد من قياداتها، وكأنها تخوض حربا تمهيدية لحربها الواسعة التي تنتظر التوقيت الملائم لها، وأصبح من الواضح انها لن تتراجع قبل تحقيق أهدافها المرحلية في إبعاد خطر "حماس" من الداخل و"حزب الله" عن الحدود، وأهدافها النهائية في منع إيران من مواصلة دورها التوسعي الذي وصل إلى حدّ تهديد وجودها.
والمختلف الجوهري والأساسي بين حربي تموز 2006 وتشرين الأول 2023 ان الحرب الأولى كانت محدودة بين إسرائيل و"حزب الله" وتندرج في سياق الحروب الكلاسيكية التي تخوضها تل أبيب ضدّ الحزب والحركة، فيما تخوض الحرب الأخيرة في مواجهة المحور كله وتندرج في سياق إزالة إسرائيل للخطر الوجودي عليها، ما يعني انها لن توقف الحرب إلا بعد تثبتها من أمرين: عدم قدرة الحركة والحزب على تهديد وجودها مستقبلا، وعدم قدرة إيران على مواصلة دورها المهدِّد لوجود إسرائيل، وبالتالي المواجهة لن تنتهي قبل إنهاء الدور الإيراني إما عن طريق تسوية، وإما عن طريق القوة.
ولا شك ان استهداف الضاحية وطهران شكل نقطة تحول في المواجهة بانها مفتوحة على التصعيد، وإسرائيل هي من بادر في رفع السقف، علما انه كان باستطاعتها الردّ من دون تحدي إيران واستفزازها، وهذا يعني انها مستعدة لتوسيع الحرب وتريد جرّ طهران إليها من أجل ان تورِّط واشنطن معها.
والأكيد في هذا المشهد ان الحرب طويلة، والأكيد أيضا انها لن تنتهي بالعودة إلى ما قبل 7 و8 تشرين، والأكيد أيضا وأيضا ان إيران ستخرج من هذه الحرب بخسارة موصوفة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل ستتمكّن إيران من الحدّ من خسائرها، أم ان إسرائيل لن توقف الحرب قبل الخسارة الكاملة لإيران، وفي الحالتين عندما تنتهي حرب "طوفان الأقصى" سينتهي معها المشروع الإيراني التوسعّي؟